بن عزة, أحمد, محمد, بدير. (2022). اللفظ، الرمز والمعنى وانعكاساتها على الكتابة الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي الجزائري: دراسة حول المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨاع'. المجلة المصرية للعلوم الاجتماعية والسلوکية, 6(6), 90-113. doi: 10.21608/ejsbs.2022.270699
أحمد بن عزة; بدير محمد. "اللفظ، الرمز والمعنى وانعكاساتها على الكتابة الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي الجزائري: دراسة حول المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨاع'". المجلة المصرية للعلوم الاجتماعية والسلوکية, 6, 6, 2022, 90-113. doi: 10.21608/ejsbs.2022.270699
بن عزة, أحمد, محمد, بدير. (2022). 'اللفظ، الرمز والمعنى وانعكاساتها على الكتابة الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي الجزائري: دراسة حول المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨاع'', المجلة المصرية للعلوم الاجتماعية والسلوکية, 6(6), pp. 90-113. doi: 10.21608/ejsbs.2022.270699
بن عزة, أحمد, محمد, بدير. اللفظ، الرمز والمعنى وانعكاساتها على الكتابة الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي الجزائري: دراسة حول المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨاع'. المجلة المصرية للعلوم الاجتماعية والسلوکية, 2022; 6(6): 90-113. doi: 10.21608/ejsbs.2022.270699
اللفظ، الرمز والمعنى وانعكاساتها على الكتابة الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي الجزائري: دراسة حول المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨاع'
1دكتوراة فى الفنون، كلية الفنون والثقافة، جامعة قسنطينة 3، الجزائر
2دكتوراة فى الفنون، كلية الآداب واللغات، جامعة أبي بكر بلقايدـ، تلمسان، الجزائر
المستخلص
يرتبط الحيز المعرفي لفهم اللغة أو الرمز بإيجاد نظام موحد، فتنصهر فيه التباينات التشكيلية لتَمَثُلِية المنطوق والعلامات ودلالتها، بحيث يحظى كل معنى، وعلى اختلاف حقل الممارسة، بالوضع النظري والمظهر الموضوعي في أنساق دالة، وفق نظام محدد ومعين، نستخدمها للتواصل بيننا نحن، وملايين الأنواع من الكائنات. ونحن وحدنا، دون الكائنات الأخرى، من نحكي قصصًا من واقع خبراتنا الحقيقية والخيالية، ومحاولة دمجها في العقل، بحيث تكون سهلة المنال والاستعمال والتلقي، كما هو الشأن مع الكتابات الحائطية واللافتات التي تعد شاهدًا على الزمان والمكان، المثقلة بالرموز والخطابات للتعبير عن الوجدان والتغيرات الثقافية، فاتجهت شرائح المجتمع إلى كتابة أو ترديد عبارات شفهية شعبية مستحدثة وعفوية، تبلغ مقدار ما تعنيه الحكمة مِن خير الكلام ما قلّ ودلّ، فنرضى عنها بالعدول، إن كانت تنافي أبجديات الآداب العامة، وبالقبول كلما كانت وطأة إيحاء المعنى أشد تأثيرًا في فهم النتائج، عندما يستحيل أن نُعبّر عن التعميمات وشرح ما نود التعبير عنه. وقد استخدم شباب الجزائر في الحراك الشعبي مفردات عامية مختزلة من لفظ ومعنى ورمز، وتشبيهات واستعارات، لا تنحصر ولا نحيط بها سبيلا للرد، مثل (يتنحاو ڨـــاع)، بمعنى يتنحى الجميع، التي طالبوا بها الرئيس، بالتنحي والعدول عن فكرة الترشح لعهدة خامسة، ولا رادع وقاطف لرؤوس حاشيته، إلا بترديد وكتابة ذلك المصطلح، ثم امتدت كشعار لفسح الحرية أمام كل من صمّ آذانه عن سماع صوت الشعب، وبديل لغة مطلب العدالة الاجتماعية، أو ربما ردة فعل لعنف قائم وتسلط سياسي.
برزت في بادئ الأمر الجداريات أو ما يعرف بالكتابات الحائطية؛ لتسجل لنا المعلومات المهمة عن إنتاج الإنسان، وتُفَصّل لنا الحياة التي كان يعيشها والمعتقدات التي كان يؤمن بها والطقوس التي مارسها، ومعرفة المواقف والهِوايات التي كان يفضلها ويشغف بها، وتحدد لنا أيضًا هُويات مُمارِسيها التي تميزهم عن باقي الأجناس، وهى ما زالت خالدة بفنها تأسر ناظريها ومتلقيها، كما كانت شاهدًا على الحضارات القديمة وكنزًا من التراث المادي والثقافي التاريخي، إذ إنها توفر مرجعًا مهما للناس لفهم نمط فكر الشعوب والتغيرات الحاصلة. و "تشير موسوعةLexicon ، إلى خاصيتين للفن الجداري، هما ارتباطه العضوي بالعمارة ودلالاته الجماهيرية الواسطة، يخاطب جماهير عدّة، ولها القدرة على التعبير عن ثقافات الأمم الإنسانية، فالفن الجدارى هو الحامل الحقيقي لجميع أعمال التصوير سواء في هيئة جداريات مرتبطة مباشرة بالعمارة، أو في شكل لوحات معلقة للإثراء الفني بصفة غير مباشرة، حتى لو كان في مساحة صغيرة" (راغب فاروق،200: 19.(
وفي السنوات الأخيرة أصبحت الكتابات الحائطية ضرورة ملحة لتُيسّر للإنسان التعبير والاحتجاج في عالم مليء بالقيود، وانتقلت مفهومًا وشكلًا إلى لافتات منقولة؛ لسهولة حملها وسرعة إنجازها وعدم خضوعها للبروتوكولات والرقابة المفروضة، ببعض الفروق الشكلية والفنية بينها وبين الرايات والتيفو Tifo أو البوندرول Banderole، حسب الحاجة. فكما تعدّدت استخداماتها لأجل التوجيه والإعلام والتواصل بصفة عامة، كانت أيضًا نقطة تحوّل هي الأخرى مع مجال الإشهار والإعلان الحديث، واعتمادها على الدال الأيقوني واللغة المكتوبة، لإغراء الناظرين إليها، بدءًا من الملاعب إلى المسيرات الاحتجاجية، وصولا إلى الثورات، وتبليغ رسالتها المرجوة تحت شعار كل ممنوع مرغوب، واللافتات صوت من لا صوت له.
مكّنت الجدران واللافتات إذن سواء الثابتة منها أو المنقولة، للمبدعين والفنانين وعامة النّاس، لتناهض ما تهيأ لها من طرائق التعبيرات المتداولة، وكانت للبعض الآخر كذلك بمنزلة إثبات للفردية وجامح للتمرّد وحشد وإلّهام الجماهير التي تنادي بالتغيير وبديل صوت لهم، وأيضاً أيقونة الشّطط والفوضى. فلظاهرة الكتابة على الجدران وفي اللافتات، قضايا متعددة تُمليها اتّجاهات الرأي والغايات التي وجدت لأجلها، طوّعها كل من طوّرها بأفكاره لمناخ فكري مختلف، فمضت على أيدي كاتبها موجات متدافعة من سرديات وأدبيات، بلغت قِيمتها وقمّتها في الحراك الشعبي الجزائري إلى ضرورة طرح المساءلة العلمية على النحو الآتى:
كيف اختزلت الكتابات الجدارية الاحتجاج بمعنى وجيز عبر ترديد مصطلح مفاهيمي 'يتنحاو ڨـــاع'، وبحركة رفع اليد لمواجهة تكميم الأفواه ومطلب للتغيير الجذري في الجزائر؟
وبناء عليه، فإن الدراسة تحاول الإجابة عن التساؤلات الفرعية الآتية:
ما العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى انبثاق هذه اللافتات والجدارايات المكتوبة في خضم الوضع الذي عاشته الجزائر ومازالت تتردد على مسامعنا بين الفنية والأخرى؟
ماذا يمثل المصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨـــاع' بالنسبة للمجتمع الجزائري؟
ما ظروف انبثاقه في ضوء إيجاد نطاق جديد وحضاري لاحتجاج سلمي في الحراك الشعبي الجزائري؟
ومن ثم، تسعى الدراسة الراهنة إلى محاولة إلقاء الضوء على الكشف المصطلحي لعبارة 'يتنحاو ڨـــاع' في البيئة الاجتماعية الجزائرية، وتتحذ دراستنا هذه من تلك الرؤى نقطة انطلاق، وهذا نظرا لندرة الدراسات السابقة التي عالجت الأشكال المصطلحية والانفراد بالمدلول الاجتماعي لهذا المصطلح، الذي يعبر عن ظرف راهن معيش في أوساط المجتمع الجزائري، قبل أن يتحول إلى هاشتاغ يغزو مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر، ويتحول إلى واحد من الشعارات والكلمات الأكثر تداولا وانتشارا، في حين يفتح البحث آفاقا جديدة أمام ثلة الباحثين للعمل على ضبط أبحاث موازية لهذه المصطلحات الشعبية التي اتخذت نطاق التحرر والمرتبطة بالنوع الاجتماعي إلى حد سواء.
وتبعا لما سبق، تحاول هذه الدراسة تبيان أهم الأهداف المنجرة في هذا البحث، وهذا من خلال الإجابة عما يلي:
تحديد وتقديم رؤية استشرافية للحراك الشعبي من منطلقات الكتابات الجدارية، وما تنقله من واقع اجتماعي وثقافي وسياسي، ومن مستجدات أخرى.
التركيز على المضامين الفكرية والمعرفية التي تؤول إليها اللافتات المكتوبة، وما تحمله من ألفاظ ورموز ومعان دالة، انطلاقا من تأصيل للمصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨـــاع'.
استخدام دراسة وصفية للتعرف على طبيعة هذه الكتابة الجدرانية واللافتات في الحراك الشعبي، وما تؤول إليه من منطلقات اجتماعية ومضامين فكرية متعددة، ومن ثم تحليل أسباب ومطالب الحراك الشعبي، انطلاقا من مصطلح 'يتنحاو ڨـــاع'.
لمتعدالكتاباتالجداريةواللافتاتالعربيةبمعزلعنأيمنحنىعالمي،إذكانتتتكيّفمعوجودالإنسانداخلفضاءات تلقائية وعفوية تحت مسميات التصاوير الشعبية، فقد جاورت الكثير من الفنون بحكم العلاقات والنظم الاجتماعية والفكرية للعرب والمسلمين،" والتصوير الشعبي عبّـر عن تاريخ الأمة بمَالَها من تقاليد وعادات وتعبير عن روح الجماعة التى أفرزتها الثقافة، وقد كان له بعد وظيفي ذو غاية جمالية بقصد تزيين البيوت والمحلات والجسد، إما سحرية بقصد طرد الأرواح الشريرة، وإما ديني حول السير الشعبية والدين والتاريخ والزخرفة" (أكرم قانصو،1995: 13) انظر الصورة) أ(، فازدادت انتشارًا بسبب ذيوع الروح القومية، والدعوة للمحافظة على الموروث الثقافي واستمرار الإرث الإنساني، ومعرفة الفوارق الناتجة عن التنوع الجغرافي.
كما لعبت الكتابات الحائطية واللافتات بُعدًا أيديولوجيا، مع كسر المواضيع الممنوعة فى بعض الأحيان، والكتابة العربية منذ القدم كانت مناوئة للمجتمع، على شاكلة " الشاعر أبي نواس في الشعر، الذي كسر الكثير من الطابوهات، خاصة على صعيد الأيديولوجيا الجنسية، حيث شكّلت كتابته في الجنس، جرأة تصل إلى حد الخدش، وربما تتجاوز المضامين الفاحشة للغرافيتي، مع فارق أساسي، وهي أنها تأتي في قالب فني وشعري"(أحمد شراك،2009: 66)، الصورة (ب)، وقد بقيت موضوعات الجداريات واللافتات في المجتمعات العربية، أفقا معرفيا خصبا وفسيحا، يعانق اللغة، ويتجاوز حدودها بمعان ورموز ككتابة 'التيفيناغ'، الموجودة على الكثير من التحف الحجرية في جبال الطاسيلي والنقوش الجدارية على الآثار التاريخية، أو كتلك الإسهامات للفنانين الجزائريين بعد الاستقلال، تمجيدا للثورة وفرحة بالاستقلال، التى ملأت شوارع ومدن الجزائر أمام المباني الحكومية ومؤسسات الدولة. ويرى الفنان الجزائري محمد بوزيد أن اللوحات الفنية المرسومة على المسند chevalet، في بادئ الأمر، لم يكن لها علاقة بالثقافة الجزائرية، وأنه لا يكفي الإشهار والإعلام لخلق جمهور يحتاج إلى لوحات زيتية، وإنما إيمان جميع الفنانين بوجوب خلق فن ذي علاقة بثقافة المجتمع، كفيل بتغيير الكثير من العقليات والذهنيات،" فتم تنويع الكتابات الحائطية في الوسائط الفنية المستعملة، والمرور من لوحات المسند إلى الرسومات الجدارية التذكارية، وبهذا لا يتوجب على الجمهور التنقل إلى دور العرض، وإنما الفن هو من سينزل إلى الشارع للبحث عن جمهوره، وهذا نفسه مبدأ الفن الشعبي Pop Art ، الصورة) ج).
كما تبنت اللافتات هي الأخرى قضايا متعلقة بالذات بكل حمولاتها النفسية والفلسفية والاجتماعية، فما يلاحظ في البلدان العربية من كبت وتحديد للخطاب حول بعض المواضيع المتحفظ عليها كالجسد والجنس والمرأة، أو حريات مطلقة في المعتقد والتوجه الفكري وتعبير عن المكنونات، وصلت إلى المناداة العلنية بتحديد طبيعة أماكن الفسق والرذيلة، أو مَعْلـَما لتسويق تناول المخدرات وغيرها من الكتابات الحائطية وحمل لشعارات الحرية، ومن هنا نتساءل عن مكانة العالم العربي في العلوم الإنسانية والاجتماعية على حدّ سواء في تأصيل لهذه الجداريات وممارستها في المجتمع العربي بنحو آخر وهي الكتابة الحائطية، إذ لم يعد الحديث عن موضوعات الثالوث المحرم يتطلب كل تلك الكُلفة اليوم، بحيث منحت لممارسي الكتابات على الحائط واللافتات الملاذ والمتنفس للتعبير، ومرتعًا لجو تواصل اجتماعي وسياسي وثقافي، وحالة من حوار حيّ ومستمر، يدوم ما يشاء من الزمن بين الناس بالألوان والأشكال والرموز والمعاني، " ففي العصر الحديث أصبحت الجداريات من أهم وسائل الاتصال الجماهيري، لوجودها في أماكن عامة، لا تحتاج إلى مختصين في الفن التشكيلي أو لمعارض فنية، إذ تعتبر أداة مؤثرة في تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية وغيرها، وفي الوقت نفسه أداة تجميل للمدن والمساحات والحوائط في الأماكن العامة والخاصة، أو وسيلة دعائية ناجحة)بدور الغامدي،2013: 117 .(
تطور التفكير في وسائل الإعلام الجديدة التي تنطوي تحت الترفيه والتواصل، وعلى غرار الجداريات، اتخذت اللافتات الحظ الأوفر لسهولة حملها وتسويق رسائلها من مكان لمكان، بوصفها لغة بصرية متنوعة داخلية محققة عضوية المكان في الاجتماعات السياسية والدينية والتظاهرات الثقافية والسياحية وباقي المناسبات، وخارجية مفتوحة تشغل المكان والجدران أو الحي كله في الشارع أو واجهات المباني، وفق شروط تتلاءم مع طبيعة الخامة والإضاءة، أو حسب خصوصية الظرف لإيصال رسائل معينة بأفكار، خصوصا " في ظلّ التكتلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها العالم، بل إن اللغة البصرية عبّرت عن ثورات وآلام وطموحات الشعوب اليومية ونشر ثقافة جديدة، تمكنت من نقل الحقائق والأفكار، في مدى أوسع وأعمق من أي وسيلة اتصال أخرى" )فاطمة رشوان،2011: 9).
وفي المقابل، نلاحظ أن اللافتات الاحتجاجية، ولاسيما في تجربة الحراك الجزائري، ارتبطت إلى حد قريب من بخاصيات فن البوب الآرت Pop Art، الذي لم يكن في معزل عن خلفية الثقافات الشعبية، وبالفن الدادئي 'Dadaïsme'، الذي كان بمنزلة انفجار تلقائي لحالة نفسية، فقدت الثقة بالخطابات السياسية، فظهرت اللافتات في توليف الكلمات البسيطة مع قصّ ولصق لخامات مختلفة، أو تجميعها مع أشياء مستخدمة ومخلفات الخردة، وكل ما يستطيع تطويعه المتظاهرون من أجل التعبير عن مسائل ومجريات أحداث تدور حول واقعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي)الصورة د(، في قالب من الوعي والسخرية والنقد، ولافتات أخرى تصميمية رقمية، تخضع لتركيب فني محكم، وتُراعي توزيع العناصر التشكيلية، وتعتمد عليها كل يوم جمعة، في تولّيد أفكار تخيّلية أو واقعية. وقد استطاعت اللافتات، عبر تاريخها الاحتجاجي، أن تُضعف أنظمة وتسقط الأخرى وترضخ لها الحكومات طوعا وكرهًا، وبالمثل كانت كافية أن تمزق شعبا وتفكك دُوَلًا، ويعود ذلك جزئيا إلى الطريقة التي استخدم فيها المحتجون اللافتات المكتوبة والمصورة لتحقيق أهدافهم ومصالحهم بأذواق يستمتع بها المتلقي؛ لذلك يدعوها بعض النقاد بالغوغاء الذكية.
ومن خلال لافتات الاحتجاج يتعرف الناس بعضهم ببعض، ويزداد التفاعل في فضاء مفتوح وجها لوجه عند حملها، دون موعد سابق، فتتوسّع العضوية في مجتمع مليء بالإشباع التعبيري، يكفي لسد مطالبهم، وتزيد من يحملها اندفاعًا وإصرارًا، فتفرض تطلعاتهم المعقولة أو أحلامهم التي لا تصل إلى نهايتها المنطقية، في أذهان صناع القرار، مثل الصورة الإشهارية وما يُسوَق عبرها، " تمامًا كما هو الشأن مع اللغة، تستعمل لخدمة الحقيقة والقيم النبيلة والتواصل الإنساني، ولكنها تستعمل أيضا للكذب والقذف والتهديد" (سعيد بنّكراد،2006: 7)، وهذا ما تحتويه اللافتات، ويتضح من بنائها الإرسالي المزدوج بين مظهر حرفي مكتوب وأيقوني مصور مباشر، وبين المضمون القيمي الذي تختزنه وتتجسد داخلها قيم إنسانية، تتبارى في ثوب فرجة حياتية، رمزا للسلام وتنبيها لإنقاذ حياة الإنسان، أو تيــهًا تصنّعت الرّشاد بألوان دماء الأبرياء، وعلى الرغم من بداهة هذه الحقيقة فإنها لا تكشف عن نفسها، بل يتساوى شرّ بلَيتها فيما يضحك، إذ كما كان يشكّك في صحّة رسائل الرئيس المنتهية عهدته، ومزاعم المحيطين به بأن يتركوه يرحل في سلام، فإنّ السلطة احتارت في تلك اللافتات الذهنية وغير المرئية، وأرهقتها تلاوتها وكتابتها، بمعنى أن اللافتة أصبحت تستفرد بحاملها وتكسبه وضعا اجتماعيا يميزه عن الآخرين أو توهمه بذلك، وتعزله عمن لا يشاطره فعله الفردي، فتنشأ تبعا لهذه الاستراتيجية رابطة اقتناع وتأثير، فكلما كان هنا كاقتناع يتلقاه بإيحاء خارجي أو ذاتي، اعتمد صاحبها على ما هو تشكيلي ولغويّ لاستثارة نفسه، يليه التأثير في وجدان المتلقي، بانفعالات متنوعة للقيام بالفعل نفسه.
2-جماحالوعيوضوابطمشروعيةالمطالبعبراللافتات
من خلال تجربة الباحثين في الحراك عبر ثلاث مناطق مختلفة من ربوع الوطن )تلمسان، وسيدي بلعباس والجزائر)، كشفت لنا اللافتات والكتابات الحائطية، حقائق عديدة بسبب حرارة الحراك، حملت الثناء لجماليتها والعزاء لقبحها في نفس الوقت، فلم نجد لها كبحًا لجماح الوعي الذي وصل إليه الشعب، ولا هي حملت ضوابط تتيح مشروعية الخروج القاعدي إلى التمرد والشطط والفوضى كذلك، فمنها ما جاء باسم التحرّر من قبضة الباطل والهروب من الاستبداد، ومنها ما جاء باسم الثأر والعصبية والانتقام، ومنها ما جاء تحت الأحقية والأهلية وتقسيم البلاد تحت زعم حماية الأقليات، وفيها ما راح يبحث عن مجد شخصي مسبق في شبه حملة انتخابية سابقة لأوانها، ومنها ما جاء للتكفير والمتاجرة بالدين والقومية، وجلُّ ما نخشاه أن تكون هذه اللافتات والشعارات المقدسة، مَعْبرًا نحو سلخ الأرواح ونهك الأعراض، كما حدث في الدولة الفاطمية وفي دولة الموحدين وغيرها من دول العالم،" فتاريخ الفتن رُفعت فيه رايتان لا زالت مرفوعة إلى عصرنا منذ الصدر الأول، راية الاستبداد السياسي وراية الخوارج، ...والثورات هي حق مشروط، لا تقوم إلا إذا اتفق عليها عقلاء الأمة وكبارها، فإذا ما انحرفت كانت طريقًا لاستبداد أشدّ من الذي سبقه، وقد رأينا ثورات شيوعية وقومية وإسلامية في الشرق والغرب، تحوّلت إلى نكبات على الإنسانية" )طارق الحسين،2012 :17-19)، فنحن ننادي بحمل الشعارات المنقذة لحقوق الحرية ولمفهومها الغائب، لكن الحرية التي ترفع في اللافتات، إذا ما وشوشتها تداخلات الحياة باسم التحرر المطلق دون انسجام مع الفكر، لا تُكتب ولا تُحمل إلاّ وهي في معزل عن التوازن العقلاني بين المشاعر والرغبات.
وهذا ما تنبه إليه جُلّ الفلاسفة، بأن دعاة الحرية يحاولون إثبات أن الحرية تنبت في كل ما هو ممنوع، يقول هيغل: "يجد الآخرين أن الإنسان حرّ، فقط حينما تكون له القدرة على فعل كل رغباته المحرّمة، وإن مثل هذا الفهم الخاطئ، يقود إلى تحطيم وتبديد المعنى الحقيقي للحرية، لأنها بهذا الوضع تصبح حرية زائفة، حرية تملك فقط الشكل الخارجي والسطح دون الجوهر)رعد مطر،2016: 746)، ومن هذا التفريق ندرك كيف تخلط مجتمعاتنا الأمور في سلوكها ونظام الآداب العامة فى أثناء الاحتجاجات، مع مسألة حرية الاعتقاد والعيش والأفكار.
إن المتأمل في المصطلح الموسوم في الدراسة، يُدْرِك أنه رفَعَ الكثير من التحديّات والرهانات في جميع المجالات الحياتية أمام عدة هيئات نظامية، والغرض منه البدء ببناء بنية تحتية نزيهة؛ لتكون عونا على نهوض دولة جديدة شعبا وحكومة، ولكن من ناحية أخرى، فإن اختزال العبارة في معناها المنغلق تماما أو المطلق كلية، لم يترك مجالا لكيفية حدوث تفاعل بين الأطراف المتخاطبة والمتنازعة والعوامل التي من خلالها يكون هذا التفاعل ممكنا والاتصال ناجحا، وبالتأثيرات والخلفيات التي أحدثها فى المتلقي. فإلى جانب ما حقّقه المصطلح الشعبي من أهداف، فإنّه يتحول في كل مرّة إلى نوع من الغسيل الدماغي والمنبه الذهني، أو بمعنى إلى إعادة برمجة عقول المحتجين، في كل محاولة يتم فيها تسييـس شعارات الحراك الشعبي، تماما مثل إعادة تحديث الحاسوب ''Update''، لكنه في نفس الوقت يطالب بإعادة التهيئة 'Formatting ' للسلطة الحاكمة (انظر الصورة ه)ـ
ومن هنا قد نتفق مع الكثير من هذه المصطلحات، وقد نختلف مع بعضها، إذا ما تم صوغ خطورة معاني المصطلحات على أساس أنها تحمل بعض التطرف السياسي والاجتماعي والثقافي، كون تطبيقها المطلق يؤدي إلى تحلّل الدولة من هيئاتها ومؤسساتها خاصة، وهو لم يطرح ضمن فروعها اللامحدودة: ما مدى حدود تنحية الكُــلّ؟
ومن مضامينها أيضا المنغلقة والمتناقضة،مثل مطالبة الهيئة الدستورية العسكرية المرافقة والمساعدة، لكنّها لا تفوضه لحسم مصيره، وتقبل من الطبقة السياسية مساندتها لكنها لا تقبل احتواءها للحراك، وهي تنادي باستقلالية القضاء، لكنها ترفض محاسبة السياسيين وإطلاق سراحهم، وتطالب بسقوط حروف الباءات(، وهي ألقاب الشخصيات التي طالبها الحراك بالتنحي)، لكنها تجاوزت سقف مطالبها إلى سقوط كل حروف الهجاء وهلم جرّا، إلى أن دبّ الخلاف، وهو أحد أوجه الاضطرابات الانشقاقية التي خلفتها معاني المصطلحات الهجينة والمتولّدة في الحراك عبر الهتافات المدويّة، والكتابات الثابتة والشعارات المنقولة.
دفعتنا الكتابات الحائطية إلى ضرورة تناولها بكل مقاييس الرؤى الشعبوية والنخبوية، بناءً على السبق الثقافي والتاريخي والحدث السريع، فعلى حدّ قول 'برتراند راسل'، قبل النظر في معنى الكلمات، لــــنـتفحّصَهَا أولاً على أنّها أحداث في العالم المحسّوس، وبصرف النظر عن كل الاعتبارات الأخرى، فإن قضية صناعة المصطلح والمتولد سواء إعلاميّا ومن اللغة العامية في اللافتات، وإن كان البحث والاشتغال عليه قليلاً بالقياس إلى ما يكتب عن غيره من مختلف فروع اللسانيات والسلوكيات، فإنه بات من القضايا المهمة التي تستقطب اهتمام الباحثين؛ من أجل استثمار طاقات المصطلح في الخطابات المختلفة، ومنظومة قادمة لنمو التعبيرات وتصورات التغييرات المثيرة، والخروج من قيود الخامات والأداء في التواصل والحريات إلى دائرة التجديد، فجعلت العلاقة بين كل من مارس وآمن بتفاني المصطلح، كالعلاقة بين السبب والنتيجة"، ويشير دي سوسير أيضًا إلى ما يفهم تحت علامة لغوية تشكل نظاما لعلامات يكون فيه وحده الربط بين تصور ذهني) معنى) وصورة صوتية جوهريا، فحين يكون شيء ما علامة بمقتضى التمثيل فإن هذا يعني أن شيئًا يصير بدقة علامة من خلال إشارته إلى شيء آخر" (زيـبيـله كريــمـر، 2011: 43).
وتستدعي الدراسات الاجتماعية واللسانية والثقافية، البحث في دلالة الكلمة وما تحمله من مستويات الاستعمال إلى المقاصد؛ ومن هذا المنطلق انطلقنا في البحث عن أهم ما تجسّد عبر الكتابات الحائطية واللافتات في الحراك الشعبي، وتناول مكنونات ما تحمله من ثلاثية: اللفظ والمعنى والرمز، للمصطلح الشعبي 'يتنحاو ڨـــاع' (بمعنى يتنحى الجميع)، المتولّد تلقائيا إثر تقرير ميداني للقناة الإخبارية 'سكاي نيوز عربية' (انظر الصورة و)، لمعرفة رأي الشارع الجزائري في القرارات التي أعلنها رئيس الدولة المنتهية عهدته في خطابه للشعب، والمتضمن عزوفه عن الترشح لعهدة خامسة؛ بهدف تهدئة المحتجين الذين تظاهروا ضد بقائه وبقاء حاشيته.
ويجيب شاب يدعى 'سفيان بكير تركي'، من عامة الناس بذلك اللفظ فيما معناه أن تلك الرسالة غير كافية، وينبغي أن يتنحّى الكل عن السلطة، وقد تولدت في تلك اللحظة قيمة رمزية للمصطلح بانزياح لغوي، وسواء بخلق إرادي أو لاإرادي فإنه لا يعني أن المتكلم، قد أحسّ بأنه بصدد إنتاج مصطلح، سيصبح في ثوان معدودة أيقونة ووسام الحراك الشعبي في الجزائر وفي العالم العربي من بعد، بعبارة عفوية ولكنها صادقة، وكونه لم " يتعمّد إلى خلقه وقصده قصدًا؛ لأننا لا نتريث ولا نفكر كثيرا عندما نتحدث إلا القليل النادر، كما أننا لا ننتظر حتى تكتمل الجملة في أذهاننا قبل أن ننطق بها، لكن هناك ضغوطًا مختلفة يمكنها أن تسهم في ظهور لفظ مولّد ارتجالًا، خاصة في ظروف تفرضها ظروف الخطاب، يستطيع المتكلم فيها، تبنّي عدد من المواقف"(جان بريفو، ترجمة خالد جهيمة، 2010: 99)، ورغم إنتاج المصطلح مرة واحدة، فإنه تمتع بنكهة لا يزال استقبالها متعددا وسوف يمتد مستقبلا.
1- علىمستوىاللفظ
تزخر اللغة بعلومها المختلفة، تشبيها واستعارة وكناية ومجازا لها للتدليل على الطيف الواسع للصورة التعبيرية، وهذا الانشغال يحمل في العصر الحالي حدّ التماهي بين الصورة واللفظ، ذلك أن شأن اللفظ في التعبير الشفهي، له عوالم تفسره هواجس الأحاسيس ومشاعر جيّاشة، ولقد جاء في لسان العرب "أن اللفظ هو أن ترمي بشيء كان في فيك، فيقال لفظت الشيء من فمي أي رميته، فالأرض تلفظ الميت، والبحر يلفظ بما في جوفه إلى الشاطئ، ونقول جاء وقد لَفَظَ لِجَامه، أيّ جاء وهو مجهود من العطش والإعياء" (ابن منظور، ج46: 4053)، ولَفَظَ بمعنى تكلّم، وقال تعالى: "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (سورة ق، الآية(18:
إن النّاظر في مصطلح الدراسة، يجد أنه تشكّل بعفوية وعَمَدَ بكفاءة على حشد متظاهرين في إطار توجيهي، مَنَحَهُم التمسّك بثبات وصلابة اليقين، وسعى إلى تكوين وبناء نماذج من الشعارات المشابهة وترديد ألفاظ متقاربة، تُجتَر في كثير من الأحيان أُحجيّة من التّراث القديم مفادها: (مِنَ الجَـافي خَرجَت حَلاوة)، ومِن بيت القصيدة (بلادي وإن جارت على عزيزة... وأهلي وإن ضنّوا علي كرام)، فقفز ذلك اللفظ على نسيج الرتابة القاتلة، وعلى لُغة الخشب المُرهِقة والجافّة الموجودة داخل جيوب بدلات السياسيين والمفروشة على ألسن أغلب المسئولين، خُشُبٌ بالليل، صُخُبٌ بالنهار، المغرمون بحناجر غوغاء على المنابر، إلى توقيع يفصل بين حركات الفعل الإبداعي الارتجالي والمعبّر عن الإجمال في الطلب وابتغاء الحوائج بعزّة نفس، لا يستقر الحال حتى يكتمل المعنى، ويتم إعادة خلق وصياغة للكائن الحيّ أو الشيء أو الظاهرة أو الفكرة المعبّر عنها.
فالمعنى المراد إيصاله في هذه الحالة استلزم اللفظ، واللفظ استدعى معناه، ولقد استقر في المفهوم اللغوي الحديث " أن الدلالة هي العلاقة بين الدال (اللفظ (و (المدلول (المعنى") أحمد نعيم الكراعين،1993: 84)، ومما يدخل تحت هذا التوضيح، ما يعرف بمصطلح "المعنى التصويري أو المفهومي Conceptual Meaning أو الإدراكي، الذي يُستمد من استخدام اللفظ، ويعد مَرْكزًا لدلالات الكلمة، فهي التي تُرشّح أيَّ الألفاظ يكون مناسبا لهذا السياق أو ذاك، على مستوى الانتقاء والاستعمال"( أحمد مختار،1998: 36)، وإن المتكلم الذي نطق المصطلح، لم يشعر بالضرورة أنه بصدد إبداع وحدة لغوية جديدة، كما أنه لم ينتبه إلى ذلك بعد إطلاقه لها، وهذا بالفعل ما حدث له، إذ بات مصطلحه المشتق من اللغة الدّارجة، العبارة الأشهر والوسم المتصدر في الجزائر عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، فالأثر الذي تركه تَمَكّنَ من أسْر الملايين من المتلقين العارفين بمعناها والفضوليين المتوقين لمعرفة المقصود منها، فبرزت كوحدة لغوية جديدة سمحت للمصطلح بالظهور، وفرض على اللغوي والباحث أن يأخذها كلٌّ حسب تخصّصه بعين الاعتبار بعيدًا عن أي حكم قبلي، إذ جاءت في لفظ موجود يُجبرنا على الاستعمال لفهم مختصر الكلام، بدل من كلمات أخرى وُجدت قبلها، تطيل علينا مختصر انتصار المعنى بمرادفات أخرى.
ولولا شعور الشاب الجزائري صاحب المقولة الشعبية، المُتدثّر بكل معطيات التلّقائية والمعرّى عن كل حجب للحقيقة، والمتأثّر تحت وطأة الحدود القاهرة اللّصيقة من ذاته، التي أجْبرته على ما لا يرغبه، ما نزع أصلًا إلى محاولة تجاوز التّلقائية بمطلق الحرية، وإلى أن يُفْلِت من أَسر الذّات في حدث مؤقت، معبرا بالمصطلح ذاته، فلم يحسم لفظه للعبارة، في كيانه الذاتي أو على المستوى الشخصي، بل بزغ وعيًا ناضجًا ونُموّا جمع فصل الخطاب، وسلوكًا يختفي فيه الفارق بين رجال في السلطة، يَلهون ويُماطلون من أجل البقاء في الحكم، عاشوا رغد العيش، ولم يأبى لهم أن سئموا الحياة، وبين شباب يُردَّدُ على مسامعهم لا عيش لكم إلا عيش الآخرة، وهي معادلة صعبة أعْيَت وأجْهَدَت الكثيرين لإثبات صحّتها، وإلى أن نجد الحلّ لهذه المعضلة، خرج الشعب إلى الشارع مردّدًا ومطالبا بتنحية الجميع لتتعادل ميْمنة وميْسرة المعادلة، وما زال الجمع والطرح والاختزال قائما مادام المصطلح يحاول أن يخَلُص إلى محاكاة نهائية، تُصر على مداواة العِلل المُستعصية برحيل الكُـــــــلّ؛ لتأسيس مرحلة جديدة في الجزائر.
إن أي لغة لا تعرف أي شكل من أشكال التوليد تعتبر لغة ميّتة، وليس مصطلح المولد بطرح جديد حملته اللسانيات الحديثة إلى العربية، بل يمتد تداوله إلى كتابات الباحثين في اللغات الموغلة في القدم، ومن التراث ومن عصر الرواية وفي المعاجم، إلاّ أن تداوله لا يتم بالطرق الرّسمية، ومردّ ذلك أن التسجيل في المعاجم العربية، لا يتم إلا باللغة الفصيحة، بعـدَ تحسين جمعه ووضعه بما يليق بها، لا بما يصفه اللفظ العامي من لغة عصره، وبإقرّار أن "اللغة كلما شعرت بأنها مهددة وأنها في خطر من أن تأخذ مكانها لغة أخرى، فإن توليد الألفاظ ينمو فيها غالبًا بحكم الضرورة، مثل الشأن السياسي الذي يعتبر في كثير من الأحيان مُحركًا مُهمّا لعملية التوليد"(جان بريفو،2010: 50)، فاشتمال اللفظ المستخدم على بعض السّمات والملامح الدلالية التي تجعل من لفظ مصطلح قيد الدراسة، الأنسب لسياق معين، هو التعبير عن رفض التعديل والاقتراح الرئاسي، ثم إن انتقاله إلى الحراك جعله يتبوأ مقعداً وسط شرائح المجتمع.
وهذا يعني وجود علاقة طبيعية، أي حسّية صوتية، بين اللفظ كمركز صوتي، والمعنى المراد الوصول إليه، ونحن في المجتمعات نسعى على نحو خاص، وكلٌّ بطريقته الخاصة، ليُعبّر عن الكيفية التي يتناول بها القضايا والمتغيرات المتلاحقة ومتطلبات الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري، مرتكزًا على عدّة وسائل من وسائل الاتصال والتأثير والتواصل اللفظي والغير اللفظي، وهو تداخل مميز لصيق بالمنجز الثّقافي الإنساني، نتيجة تصادم المعتقدات المتضادّة وتصارع الأفكار المتباينة، تطور بعضها إلى حدّ المنازعات المسلحة أو العداءات الثقافية، واحتجاجات مبنية على تضارب الأفكار لا زالت مستمرة إلى حدّ الساعة، كما أن الشعوب ذات التقاليد العريقة معروفة بأنها تُبدع في آليات التعبير عن هويتها نظرا لثراء الموروث الحضاري لديها، فتشتق منه ترديد مصطلحات وهتافات شعبية غريبة تثير أنواع الدهشة أو الاستهجان مثل'جيبـو)أحضروا) البيـاري وزيـدو الصاعقة "إلى" نَحِي الكَاسْكِيطَة وَأَرْوَاحْ مْعَانا"(خطاب موجه إلى رجل الأمن بنزع قبعته والانضمام إلى الحراك...إلخ).
كما أن هذا التطور الصوتي المتكرّر وليد المُصادفة المتوارث من التراث والفنون الشعبية الأدائية والقولية، ومن النّزعات الحركية التي ترفض الثبات والمتغيرة أفقيّا ورأسيّا في أفراد وطبقات اجتماعية وسياسية، الداعية للتغيير في المظاهرات والملاعب واللقاءات الجمعية والمناسبات المشابهة، تزيد في اشتقاق المُشتَرك اللّفظي، وهذا بالفعل ما رأيناه في الحرّاك الشّعبي، وكأن تلك المصطلحات وُجِدت لاستعمال ظَرفي، تُثار كلما دَعت الضرورة لذلك، فزادت من استحسّان وتعاطف الجزائريين فيما بينهم، تكلّلت بمرادفات أخرى، كان لها الأثر المتباين في نفوسهم، برزت من الواقع المحسّوس إلى أرض الواقع، وانعكس بتلاحم شعبي مكثف للعلم الوطني من على رؤوس وأكتاف المتجمهرين، وبتوزيع الطعام ومختلف المأكولات على المتظاهرين في المسيرات، وأكثر ما صنع الحدث كذلك، حضور اللباس التقليدي من 'الحايك' و 'الجبّة القبائلية' وغيرها من الظواهر، وكأننا نرى تطابق ما يؤكده الباحثون من أن اللّفظ والمعنى حقيقتان متحدتان وأن العناية بأحدهما عناية بالآخر، ففتحت هذه الشاكلة في قرابة ثلاثين ثانية، شهيّة في ذاك المأكل والملبس و اعتزازا بالانتماء الجزائري، لِتَصْدُقَ لغة الشارع مع اللغة وبأن تتطابق مفاهيم المصطلح مع الأحداث، فتجلّى في جمالية فنية تكمُن في إلصاق عاطفة التعبير، مع خيال أحْدَثَ الإبداع، في "الذات القادرة على الفهم والإدراك والتعلم والحدس والتفكير واللغة والحركة، وهي الذات التلقائية في أنقى صورها المتحررة من أسر الصّراعات" (ماجد موريس، 1999: 26)، فأخذت تلك الذّات صورًا جمالية لأنموذج سلمي في الاحتجاج، تجترّ معها المطالب المرجوة وأحاسيس نفسية كامنة من كوكبة متميزة من أبناء وبنات الوطن، تحت راية واحدة على الأكثر ومطلب واحد على الأقل، فصنعت لنا أيقونة، نتفيأ ظلالها وتفيض علينا قيم التلاحم والتآزر والحوار والمصارحة، وتوحيد المصير والغاية، وسمحت للمصطلح المدروس بمغادرة مسقط رأسه إلى أمكنة مختلفة، يكتسي كتابات حائطية ولافتات بالقرب من الجماهير، في شوارع الوطن، فدخل إلى المعجم العام، الذي أكّد ولوجه إلى رحاب اللغة المشتركة بين الدول المغاربية ويستقر فيها.
2- علىمستوىالمعنى
أطلق العرب كلمة 'المعنى' على العديد من المواضع والمسميات، ويقصد به العديد من الأشياء، فقد جاء في لسان العرب" يمعن معنًا وأمعن كلاهما تباعد، والحديث أمعنتم في كذا أي بالغتم، وأمعنوا في الطّلب أي جدّوا وأبعدوا، وأمعن الرجل أي هرب وتباعد) ابن منظور،1413: 101-102(: والمعنى هو الصورة الذهنية من حيث ما يدل عليه اللفظ، ولم نجد مِمّا هو أبلغ وصفًا وشرحًا من معنى 'المعنى'، في تعريف الجرجاني " الصورة الذهنية من حيث ما وُضع بإزائها الألفاظ والصور الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ: سُميت معنى، ومن حيث إنها تحصل من اللفظ في العقل: سُميت مفهومًا، ومن حيث إنه قول في جواب ما هو؟: سُميت ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج، سُميت: حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار، سُميت: هوية" )الجرجاني الحنفي، بدون تاريخ: 214)، فالمعنى يبقى إزاء الصورة الذهنية فقط، " كما نجد للمعنى دلالة ثانية على المعنى المقصود الذي يريد المتكلم إثباته، ونجد معنى معرفيا واقعيا، ومعنى انفعاليّا") عبد المنعم الحنفي،2000: 821) فمثلا يتبخر الماء في درجة 100° فهذا معنى واقعي.
أما قولنا 'يتنحاو ڨـــاع' ، فهو المقصد الذي يتبناه كل الشعب، والذي يريد رحيل جميع رموز النظام، وتفعيل المادة 102 من الدستور بشأن خلو منصب الرئيس، وعليه تنص تلك المادة على أنه في حال استقالة الرئيس، أو وفاته، أو عجزه، يخلفه رئيس مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) لمدة 90 يوما، تنظم خلالها انتخابات جديدة، ومن ثم، فهو معنى انفعالي ينتقل إلى التّشكُّل في صورتنا الذهنية، محاولين معرفة تفاصيل معناه، وإذا كنّا ممن يفقه اللهجة الجزائرية، فإنه سوف تزداد درجة استشعار قوته الواقعة فينا، وبالتصورات والتصديقات التي سوف تحصل عند تحقيقها، وهذا ما تجسّد في إرادة المعنى من هذا المصطلح المعروف، الذي تمتع في الصورة العقلية بإرادة التغيير وإرادة اللذّة في آن واحد، بمعنى أنه أحدث لدى المتلقي الجزائري بالخصوص، صدى بامتزاج تعبيري عفوي، جاء من منطلق منظومة جوابية، بين فكر نيتشوي تحدث عن القوة وبين العلاج النفسي الفرويدي، وكأنه مبدأ لصياغة الدافعية عن حق ومطلب مشروع، ويصبغ خاصية العلاج والاستشفاء الذاتي في اللحظة نفسها، لتحقيق إنتاج معنى شامل، بل إن الشخص المعبر عن ردة فعله بالجزئية المبحوث فيها، تعبر بوصفها مُتكَلمًا ومُفسّرًا وبوصفها لغويّا، " فنحن نعامل الأشياء بوصفها علامات، وكل تجربة بالمعنى الأوسع إمكانا للكلمة قد يُسّتَمّتـَع بها، أو تُــؤَوّل بوصفها علامة أو يفعل بها كلا الأمرين" (أوغدن ورتشاردز، ترجمة: كيان حازم،2015: 21(، تعلو من حيث مرتبة المدلول بمقدار ما تنبض أو تجف فيه الوسام، فتستمد من الدّلالة ومن مواقف مُمارسيها على اللافتات والكتابات الحائطية ما يراد التعبير عنه، وهي أحدى أهم معضلات الفكر، بين اللغة والتجربة الإنسانية المعيشة، كما يؤكد 'بول ريكور'، أن الخطاب لا يوجد البتة من أجل تمجيد ذاته، بل يحاول في كل استخداماته نقل تجربة مـــــــا إلى اللغة، بطريقة مــــــا، لسكان العالم في العالم، وربما نفهم الآن بشكل أفضل لماذا صار المنظور الخاص بنظرية العلامات جوهريا " فكما يمكن أن يعد ورود مفرد ممـيز مكانيـا و زمـانيا ، بأنـه تحقيق لنمط علامـاتي شامل) كُلّي(، غير ممكن تمركزه مكانيـا-زمـانيا، فإن الكلام يفسر بأنه تحقيق للغة، وتكمن النكتة في التصوير اللغوي السيميولوجي في أن تصور العلامات مكن من تقسيم الخاصية اللغوية إلى مجال مرئي وغير مرئي وتنتج في الكلام علامات في تتابع زمني؛ ومن هنا يظهر أساسا شرطُ إمكان أن تنتج هوية اللغوية من خلال السلبية، وأن توجد اللغة حقيقة ولا يمكن لسوسير أن تعد منهجية ولا نتاج تجريد لعلم اللغة) زيـبيـله كريــمـر،2011: 56).
إن البعد المعنوي ونزوح المصطلح إلى أذهان الشعب، ليس بالأمر الهيّن في الوقت الحالي، فهو لم يَعُد عَرَضًا مُضافًا، أو أمرًا طارئًا يمكن التغاضي عنه أو نسيانه بسهولة، فقد صاحَبَ كل فعاليات الحراك، وأصبح أيقونة وعلامة مميزة، وبخاصة أن الشعب الجزائري يحتفي في هذه الظروف الحساسة، بأن يأتيه الباطل والأكاذيب من كل الجبهات، فكل من يبتغ غير ذات المعنى حّلا، فلن يقبل منه، وليس هناك ما يجافي الحقيقة إذا قلنا إن السلطة وجدت نفسها في موقف حرج، أمام من يصنع المصطلحات في الحراك، والتي أضحت وسيلة تأثير في يد من يملك قوة الردح، ونقمة على من يستهلكها وينعت بها، وسواء أكانت هذه المصطلحات موروثة أم مقّتضبة فإنها تُلبّي حاجات تواصلية، تفرضها المستجدات فيتحقّق معها وضوح الضروريات، ولعلّ هذه الحقيقة أيضا، هي التي تُعلّل ميلاد مصطلح جديد، دخل إلى قاموس الخطاب الاجتماعي والسياسي، وغزا مواقع التواصل الاجتماعي، بإعادة إخراجه إلى العلن وإدخاله إلى قاموس المفردات المتداولة، لم يبق معه إلا التوتّر في شكله الأدائي، اجترّ في موادعة جماعية من الاستقالات والمتابعات القضائية، ومحاسبة حتى المؤسسات الدستورية، التي لم تسلم هي الأخرى من زلزال من المصطلحات كمصطلح 'المنجل" (وهو آلة زراعية تقليدية تُستخدم للحصاد.(
ومن جانب علمي موضوعي يمكننا القول أيضًا إن المصطلحات الجديدة باتت تشكل خطورة على المعنى، تفطّن إليها الباحثون، واستقطبت أنظارهم، فهي بقدر ما تعبر عن الواقع وقضاياه وتحديّاته، بقدر ما اقترنت بأيديولوجيات وعنف وثنايا لا تتوقف ولا تستقر، سواء بالسّلب أو الإيجاب في عُنفوان الفهم الجزائري، الذي لا يمكن أن ينفكّ أو ينتهي جمعة بعد جمعة، فاستمراريته أزليّة، إذ عكف ظهورها واستحداثها وتهجينها، كردّ فعل من الشعب في كل مسيرة من مسيرات الحراك الشعبي، على سلطة قائمة تصدر عنها قرارات على مدار أيام الأسبوع، سواء تمت بالرفض أو القبول، للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد، فمصطلحات اللّغة الدارجة على غرار": كْلِيتُو البْلاَدْ يَا السَرّاقين" بمعنى أكلتم خيرات البلاد يا سارقون" جيش شعب خاوة خاوة في إشارة إلى الأخوة ووحدة الشعب مع الجيش وغيرها"، تنوعت أحيانا بين اللّغة العربية والأمازيغية والأجنبية، أفلح معناها فى توحيد مواقف الجزائريين، وخاب الظن فيها أيضاً حينما اختلفت، وفرّقت صفوفهم وشتّت مطالبهم، ولم يعد مقتصرًا استعمالها على بلدنا دون الآخرين.
ما أردنا إثباته وطرحه، صالح لأزمنة متغيرة وأمكنة مختلفة، نتقاسم فيها عوامل مشتركة في الثقافات وتجارب في البنية والتكوين، مما يستدعي أن تدخل هذه الهتافات والكتابات مخابر البحث والتحليل الأكاديمي والسوسيولوجي؛ كي يتم وضعها في سياقها النفسي والسياسي والشعبي، والوقوف على ملْمَحِها، ومحاولة معرفة المدى الفاصل بين الابتكار والابتذال، بين أسلوب ينساب بالشعرية وبعميق الإيحاءات، وتكثيف شعوري بشفافية تصويرية، وبين مضامين قد لا ترتضيها أخلاقيات المجتمع والآداب العامة؛ ومن ثم تتبارى معاني ومقاصد المصطلحات من الكتابات على الحائط واللافتات، في تكوينها اللفظي والمعنى الرمزي، نتيجة للذخر الثقافي الذي لا يقل عطاءً في شيء من القداسة والزّهو والاستحسان، وحمل أيضا بين طيّاته التّناقض والإسْفاف والاستهجان أحيانًا أخرى.
إنّ مورد هذا المصطلح، لم يأتِ من لحظة واعية، بل جاء في سياق ردّ عنفواني مقْتضب غلب عليه ردّ انفعالي، تلفّظ به الشاب وهو في حالة غضب من تمسك رئيس الدولة بالسلطة، لكنّ المعنى قد تعدّى إلى الابتزاز والتضييق على الحريات الفردية، خصوصا في ظل بروز مفردات أخرى عنصرية وكذا فئوية متأثرة بالمصطلح المُـــــعَنــوَن في دراستنا، فتصبح ضربًا من الدّجل في المصطلح الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهي إشكالية عبثية، تبرز تهوّر وفتك عضد حراك الشّعب وتماسك الدّولة في نفس الوقت، وعلى أثر المثل السائد لا يمكن صنع عجّة بيض إلا بكسر البيض، فإن محاولة التبجح بمعنى 'يتنحاو ڨـــاع' وهندسته بمخادعة منطقية على المقاس، لا يمكن أن تتم دون تحمل كل النتائج؛ إذ إن توازن مطلب هذا المصطلح هو الذي يبقيه واقفا والحروف دومًا متماسكة، وإن أشاح بما يحلو للبعض فإنه سَيُبدِع في الفراغ، وإنّ مسألة تطبيقه المطلق أو مُمارسته الانتقائية، يُصبح أمْرها هُـلاميّا، لا نجد له معنى إلا في مدينة أفلاطون الفاضلة، أو في جداريات مشيّدة ولافتات خاوية، بالرغم مما تحمله من لفظ ومعنى ورمز.
وفي نهاية الأمر يبقى معنى المصطلح طبق الأصل لذاته لا يقبل النسخ على معانٍ أخرى، كصوت للشارع ولغة للحراك، رُصِد من قبل في الحناجر واللافتات والكتابة على الجدران، واقْترن في بادئ الأمر بوضعية المجتمع، المتأثر مسبقًا بشفرات ناتجة عن أعمال فنية: من لوحات تشكيلية ومسرحيات وأفلام ومسلسلات، كفيلم 'كرنفال في دشرة' لعثمان عريوات، أو الفنان صيراط بومدين في شعيب الخديم، ومسلسل عاشور العاشر وغيرها (الصورة ز(، عكست الوضع الاجتماعي الجزائري، واختزلها الكل باختلاف توجهاته ووظائفه المهنية لتوصيفه الحال الذي آل إليه المآل، فربما تجاوز المصطلحات ما يُمكن أن يُطرح أكاديميًا ونخبويّا، لذلك يستدعي الرد عليها بآليات وعي واستراتيجيات ممارسة ميدانية، والتطبيق العقلي على أرض الواقع.
3- علىمستوىالرمز
إذا كان قد اتضح من خلال ثنائية اللّفظ والمعنى، كيف كان حضورهما في المصْطلح المدروس، لم يبّق ذا تجلّ مكتمل، إلا استجابة وسعيًا للتّدليل على أبعاده الرّمزية، وإزاحة ما تبقى من ضبابية، مما تسمعه الأذن و يفهمه العقل، إلى حيث تنظر العين ويستعان بالرمز، وإن وقْعـه يقع بالضدّ إذا ما جئنا للحقائق وقد صاغ بغير خلافه؛ لأن استهداف المصطلح القابل للتطبيق متوقف على تطويره باستقلالية رمزية، ولإبراز بواطن خصوصيات الإبستمولوجيا، التي تتقاطع في سبيل بناء أو تصحيح مصطلح الأنموذج المعلن عنه سلفًا، أي تحليل كل ما " يحتويه الوعاء اللغوي أو التصويري أو المنطوقي أو الإيمائي من معانٍ مختلفة، فيقوم الفرد بالتعبير عنها في رمــوز محدّدة، وفق تنظيم معين لتحقيق غايات اتصالية مع الآخرين" (أحمد بن مرسلي،1996: 205) ، فقدرة الإنسان على التعبير تختلف من أساليب ومستويات كالرّسم والكلام إلى الموسيقى والحركة والإيماءات، لكن تَعرية الحقائق أو كشفها لا يُلزم أن يكون صريحًا، وإنّما قد نكتفي بكشف جزئي وتجريد لها، والذي يحتاج إلى مستوى إدراكي عالٍ لدى المتلقّي؛ لأنه ينطلق من الخيال نحو مرجعيّات ثقافية وأبعاد خلفية، نَزعت نحو الرّمزية والطابع الذّهني، التي تم تجسيدها في الشعارات واللافتات، "فالرمز ذو دلالة يستدل بها الإنسان على معنى، الذي قد يكون مطلقًا لبعض المعنى أو الأفكار، أو كذلك لرغبات ومفاهيم في صورة محسّوسة مثل الصورة أو الفعل؛ مما يمكننا من تحقيقه في شعارات مبنية على تخطيط مُبسّط، ومُعبّـر بالإشارة لمفهوم أو معنى أو نشاط، وهذا ما يوضح العلاقة الوثيقة بين الرّمز والشّعار" (فاطمة رشوان،2011: 11).
كما تكمن فاعلية الرمز في أن معناه سيفهم من خلال المشاهدة أو مجرد التلميح الحركي باليد (انظر الصورة ح)، إذ يكفي أن نشاهد صورة الشباب وتقليدهم بحركية باليد على نفس المنوال الذى عبر به الشاب عند لفظه المصطلح، لندرك أنها "الشفرة" أو المفتاح الذي يدل على المصطلح الموسوم، فتَحدُث استجابة مُماثلة في الغير وتنتقل إليهم نفس المعاني والأفكار،" فنحن لا نقرأ النصوص حين نقرؤها وأذهاننا خالية تمامًا من الأفكار الموجودة سلفًا، إنّما نقرؤها في ظلّ توجيهات ومعلومات مختزنة لدينا، ونفسّر العلامات في ضوء ما يبدو أنه الشفرة المناسبة، التي تومض بها إلى أذهاننا بعض المفاتيح التي نلتقطه" (السيد إبراهيم،2007: 9). أي أن هناك اتصالا وثيقًا بين الرمز و الشعار المحمول في اللافتة لدرجة تجعل من الصعب عدم ارتباطهما وتلازمهما معا، وبطبيعة الحال، شريطة أن يكونا متلازمين مع مكنونات طبيعة البيئة التي وُجِدا فيهما؛ لذلك جاءت شعارات اللافتات في الحراك بصيغة رمزية مناسبة لموضوع المعنى واللفظ، فيدرك المتلقي في اللحظة ذاتها، أن المغزى وراء تمثيل الرمز بحركة الوجه والفم أو باليد، بأنه يوحي إلى ردّ الفعل تجاه حدث عاشته الساحة السياسية في الجزائر، ثم إن الجزاء من جنس العمل كما يقال، فقد حمل المتظاهرون مثلا 'علبة الزبادي أو "الياغورت" في الحراك) انظر صورة ط(، التي صارت رمزًا لقصة صّنعت الحدث في الشارع، فحينما عرفت هذه المادة زيادة محسوسة في السعر، واستنكر المستهلك الجزائري هذا الارتفاع " رد رئيس الحكومة السابق بنبرة تهكم: الشعب ما لازم يأكل الياغورت، جوّعْ كَلْبَكْ يَتبَعَك" (جريدة الخبر،12 يونيو2019) بمعنى أنه ليس من الضروري أن يتناول كل جزائري علبة الزبادي، ثم إن تجويع الشعب هو ما يجعله تابعًا وخاضعًا للسلطة، "مما استلزم أن يطلب النواب من الوزير الاعتذار للشعب الجزائري تحت طائلة مساءلته على تصريحه") جريدة الوطن،21 أوت 2017)، وسواء أكان بريئا مما نُسب إليه، وأنه تم إساءة فهم اللفظ والمعنى، فإن الرمز بقي وسيبقى لصيقا به إلى الأبد.
يتنحاو أو) يرحلون)، أما عن المدلول الاصطلاحي ل"ڨـــاع" فهو مصطلح جزائري محض معناه الجميع والكل، ومن ثم فهو مرتبط بالبنية الذهنية للجزائريين، والقصد منه رحيل كل السلطة. وعليه، نُسِب للشاب الجزائري بعد تلك الحادثة، حقوق الملكية والنشر والتوزيع على مختلف أوساط الميديا، وأصبح تعريفا اصطلاحيا لِلَقَبِـــــه وتعريفا لغويا لشخصيته، من باب التفخيم والتقدير على شاكلة الصرخات التي ظهرت في الفيلم الجزائري 'دورية نحو الشرق': (يَاوْ عْلّيكم الڨالمة، و يَاوْ عْلِيكُمْ لَبْلانْدِي=blindé = armored'، يـَا العَافْيَة')، فلفظ 'يَاوْ' في اللهجة الجزائرية تناسب المعنى في لفظ المناداة "يا "، ومجموع هاته الكلمات يعني صرخات إنذاريه للسكان، كانت تُرَدّد معلنة بمعانيها إبّان الاحتلال للجزائر على التوالي: عليكم: أتاكم البأس-armored: ضرورة الاحتماء من المدرعات- العافية: رحيل الطائرات ودورية الجيش الاستعماري الفرنسي، التي اشتهر بها الممثل" العياشي حجاجي) "الصورة ي).
فبقيت تلك الألفاظ بمعانيها رمزا لصيقًا بالوصي الذي أشاع في الذّهن الجمعي، ليُصبح عَلَمًا وشهرة للممثل، فالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية وسائر الأمزجة الذاتية، تتضافر كلها لتوجيه هذا الاختيار والتأثير، ما ثبت منها وما تحوّل، وتلك الإيحاءات للمصطلح المتوَلّد، تشير إلى الحدث المعبر عنه، فيتشكّل بدهيّا في مخيلة الشخصية الجزائرية وتَلتفت إليه لاستذكار الأحداث التي أثارته، وتدرك أن هذا المدلول دون غيره له علاقة برفض تجديد العهدة الرئاسية ورد فعل عن تصور مشروع انتخابي مُفلس سياسيّا، بل حتى اختيار يوم الجمعة من سائر أيام الأسبوع لم يكن محلّ صدفة، فهو يعبّر عن خلفية ثقافية لدى الشعب الجزائري، وكونه في المعتقد الديني الإسلامي، أنه يومٌ يُلتمس منه البرّكة، وأنّ الله جعل به ساعة إذا صادفها الإنسان ودعا فيها، إلا واستجاب الله لدعائه، إضافة إلى أنه يوم لا يقبل فيه تبرير الغياب عن الحراك بوصفه يوم راحة.
فهي إذن إشارات وأمَارات تكيّف معها الوعي الجمعي للحراك، يقوده إلى افتراض نزول البركة، في تململه أمام صيرورة مسلك السلمية، ويؤسس لإعادة صياغة مُقوّمات بناء دولة وطنية ديمقراطية شعبية، عرفت مسيرة نضال شعب خلال مرحلة ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني، وأن يحدث في وسط المجتمع مثلما تفعله التعاملات المالية الشرعية، بأن تَطرُد العملة السليمة العملات المزيفة، وتظلّ العملة الباطلة هي الأقلّ تداولا ورواجا بين الناس.
خامسًا: النتائجالمتوصلإليهاوالتوصياتالمقترحة:
- دخلت بعض المصطلحات الهامشية في الحراك، من باب الترفيه وإثارة الضحك تارة، وتارة باعتبارها سبيلا للشهرة والتميز، فكلما كانت بخلفية مُسبقة، ومُتعمدة ومُفكرٌ فيها، أفتقدت للعفوية والصدق، وتؤول إلى الذوبان والنسيان.
- أصبحت المصطلحات الشعبية التي دوّت في اللحظات الأولى من بداية المسيرات والتي وُلِدَت مع الشعب وتَوَلّدَت من رحم معاناته، مدلولا رمزيا يعكس الطابع السلوكي والتحرري للمجتمع الجزائري، وعلى حدّ تعبير 'تشومسكي': إن العالم الذهني ينقسم إلى مشاكل يمكن أن تخضع لتنظير أو لا تخضع، إلاّ الألغاز؛ فإنها لا تخضع أبدا لأيّ تنظير.
- عدّ مصطلح' يتنحاو ڨـــاع' اتفاقًا جمعيّا في البنية الذهنية لمجموعة من الأشخاص رافضي النظام، والذي لم ينطلق من فراغ، بل سبقته سنوات من الكلام والصبر على الألم للظروف المعيشة.
- ترسخ اللافتات والجداريات حضورها قولا وصورة في البيئة الاجتماعية الجزائرية، فتلخص كل الشعارات والمطالب المرفوعة في الحراك الشعبي السلمي، هذا من خلال استعمال اللهجة المحلية (اللغة الدارجة).
- عدّ المصطلح 'يتنحاو ڨـــاع' مفهوما عادلا يلخص كل الحلول، التي يراها الشعب المجتمع الجزائري حلا لتغيير نظام السلطة، ومن ثم فإنه تعدى صدى تداوله اليوم حدود الوطن.
وبناء على ما سبق ذكره، وجب الاهتمام بمختلف الدراسات التي تُعنى بدراسة المصطلحات المتولّدة تحت المخابر العلمية والمساءلة العلمية، مثلها مثل الرموز التعبيرية 'إيموجيز' المستخدمة حاليا في الهواتف الخلوية، كممارسة يومية لتوصيل الرسائل والتخاطب مع المتلقي، تكون كفيلة بأن تصنع لنا دستور الحياة لحياة المجتمع، فهي أسلوب للتفاوض ووسيلة للتدافع الحقوقي، وبصفتها أحد المداخل لدراسة المزاج وسلوك الفرد في المجتمع الذي تنتشر داخله، تنشد التعبير والتغيير والعدالة.
كما وجب السعي في نفس الوقت إلى نبذ أشكال العنف والتفرقة والشتات بكل توجهاتها العاطفية والسياسية والاجتماعية والثقافية، من خلال ما تجيزه الكتابات الحائطية واللافتات، وتبرزه من تداعيات على المجتمع العربي، وخاصة الجزائري.
المراجع
ابن فارس. (1969). مقاييس اللغة، ج4، تحرير عبد السلام هارون، مطبوعات مصطفى الحلبي سوريا.
ابن منظور، محمد بن مكرم. (1414). لسان العرب، المجلد الأول، ج46، دار صادر، بيروت.
أحمد مختار، عمر(1998). علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة.
أوغدن، ورتشاردز. (2015). معنى المعنى: دراسة لأثر اللغة في الفكر والعلم الرمزية، ترجمة كيان أحمد حازم يحيى، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان.
بريفو، جان؛ سابليرول، جان فرانسوا. (2010). المولد: دراسة في بناء الألفاظ، ترجمة خالد جهيمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
بن مرسلي، أحمد. (1996). استخدامات تحليل المضمون في الدراسات الإعلامية: التطور التاريخي وبعض الجوانب التطبيقية، المجلة الجزائرية للاتصال، العدد 14.
بنّكراد، سعيد. (2006). سيميائية الصورة الإشهارية، الإشهار والتمثلات الثقافية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء.
الجرجاني الحنفي، الشريف علي بن محمد بن علي. (دون تاريخ). التعريفات، تحرير: محمد علي أبو العباس، مكتبة القرآن، عابدين، القاهرة.
الحسين، طارق. (2012). الحرية في معتقل الشعارات، الدار الخالدية للنشر والتوزيع، السعودية.
الحفني، عبد المنعم. (2000). المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة.
راغب، عماد فاروق. (2000). الأسسالبنائيةفيمختاراتمنجدارياتالفنالمعاصركمدخللإثراءاللوحةالزخرفية. رسالة ماجستير في التربية الفنية، جامعة حلوان، مصر.
الزهراء، كمال رشوان فاطمة. (2011)، الشعار في الفنّ التشكّيلي، عالم الكتب، القاهرة
زيـبيـله، كريــمـر. (2011). اللغة والفعل الكلامي والاتصال: مواقف خاصة بالنظرية اللغوية في القرن العشرين، ترجمة سعيد حسن بحيري، ط01، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة.
السيد، إبراهيم. (2007). الرمز والفن: مداخل الأسلوبية والسيميوطيقا إلى الدرس الثقافي، مركز الحضارة العربية، مصر.
شراك، أ. (2009). الكتابة على الجدران المدرسية، مقدمة في سوسيولوجيا الشباب والهامش والكتابة. منشورات دار التوحيدي، المغرب.
الغامدي، بدور بنت سعيد بن حمزة. (2013). الأبعادالجماليةوالتشكيليةلأعمدةالإنارةالعامةلإثراءالجداريةالمعدنيةالمعاصرة، رسالة ماجستير في التربية الفنية، جامعة أم القرى، السعودية.
قانصو، أكرم. (1995). التصوير الشعبي العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت
الكراعين، أحمد نعيم. (1993). علم الدلالة بين النظرية والتطبيق، المؤسسة الجامعية، بيروت.
مجموعة من المؤلفين (2012). ثورات قلقة: مقاربات سوسيو-استراتيجية للحراك العربي. مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت.
مطر، رعد. (2016). جمالية الفن المصري القديم بين الالتزام وحرية التعبير دراسة تاريخية أثرية، مجلة جامعة بابل، ع 6، بغداد.
موريس، ماجد إبراهيم. (1999). سيكولوجيا القهر والإبداع، دار الفارابي، بيروت.
الهمذاني، عبد الرحمن بن عيسى(1119). كتاب الألفاظ، تحقيق البدراوي زهران، دار المعارف، القاهرة.
ف.غ أويحيى يزلزل 12يونيو2019 مواقع التواصل الاجتماعي، موقع جريد الخبر: